كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولًا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}..
إن ختام هذه الفقرة بهذه الحقيقة الكبيرة. حقيقة الرسول صلى الله عليه وسلم وقيمتها الذاتية وعظم المنة الإلهية بها ودورها في إنشاء هذه الأمة وتعليمها وتربيتها وقيادتها ونقلها من الضلال المبين إلى العلم والحكمة والطهارة.. إن هذا الختام يتضمن لمسات قرآنية كثيرة منوعة عميقة:
إنها تجيء ابتداء تعقيبًا على الغنائم والطمع فيها والغلول والانشغال بهذا الأمر الصغير الذي كان الإنشغال به هو السبب المباشر الذي قلب الموقف في المعركة وبدل النصر هزيمة وفعل بالمسلمين الأفاعيل.. فالإشارة إلى حقيقة الرسالة الكبيرة والمنة العظيمة المتمثلة فيها لمسة عميقة من لمسات التربية القرآنية الفريدة. تبدو في ظلها غنائم الأرض كلها وأسلاب الأرض كلها وإعراض الأرض كلها شيئًا تافهًا زهيدًا لا يذكر ولا يقدر. شيئًا تخجل النفس المؤمنة أن تذكره بل تستحي أن تفكر فيه! فضلًا عن أن تشغل به!
وهي تجيء في سياق الحديث عن الهزيمة والقرح والألم والخسارة التي أصابت الجماعة المسلمة في المعركة.. فالإشارة إلى تلك الحقيقة الكبيرة وما تمثله من منة عظيمة لمسة عميقة من لمسات التربية القرآنية العجيبة تصغر في ظلها الآلام والخسائر وتصغر إلى جانبها الجراح والتضحيات. على حين تعظم المنة ويتجلى العطاء الذي يرجح كل شيء في حياة الأمة المسلمة على الإطلاق.
ثم.. الإشارة إلى آثار هذه المنة في حياة الأمة المسلمة {يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}.. وهي تشي بالنقلة من حال إلى حال ومن وضع إلى وضع ومن عهد إلى عهد. فتشعر الأمة المسلمة بما وراء هذه النقلة من قدر الله الذي يريد بهذه الأمة أمرًا ضخمًا في تاريخ الأرض وفي حياة البشر والذي يعدها لهذا الأمر الضخم بإرسال الرسول صلى الله عليه وسلم فما ينبغي لأمة هذا شأنها أن تشغل بالها بالغنائم التي تبدو تافهة زهيدة في ظل هذا الهدف الضخم ولا أن تجزع من التضحيات والآلام التي تبدو هينة يسيرة في ظل هذه الغاية الكبيرة..
هذه بعض اللمسات المستفادة من ذكر هذه المنة في هذا السياق. نذكرها باختصار وإجمال لنواجه النص القرآني الحافل بالإيحاءات والظلال: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولًا من أنفسهم}..
إنها المنة العظمى أن يبعث الله فيهم رسولًا وأن يكون هذا الرسول {من أنفسهم}.. إن العناية من الله الجليل بإرسال رسول من عنده إلى بعض خلقه هي المنة التي لا تنبثق إلا من فيض الكرم الإلهي.
المنة الخالصة التي لا يقابلها شيء من جانب البشر. وإلا فمن هم هؤلاء الناس ومن هم هؤلاء الخلق حتى يذكرهم الله هذا الذكر ويعنى بهم هذه العناية؟ ويبلغ من حفاوة الله بهم أن يرسل لهم رسولًا من عنده يحدثهم بآياته سبحانه وكلماته لولا أن كرم الله يفيض بلا حساب ويغمر خلائقه بلا سبب منهم ولا مقابل؟
وتتضاعف المنة بأن يكون هذا الرسول {من أنفسهم}.. لم يقل منهم فإن للتعبير القرآني {من أنفسهم} ظلالًا عميقة الإيحاء والدلالة.. إن الصلة بين المؤمنين والرسول هي صلة النفس بالنفس لا صلة الفرد بالجنس. فليست المسألة أنه واحد منهم وكفى. إنما هي أعمق من ذلك وأرقى. ثم إنهم بالإيمان يرتفعون إلى هذه الصلة بالرسول ويصلون إلى هذا الأفق من الكرامة على الله. فهو منة على المؤمنين.. فالمنة مضاعفة ممثلة في إرسال الرسول وفي وصل أنفسهم بنفس الرسول ونفس الرسول بأنفسهم على هذا النحو الحبيب.
ثم تتجلى هذه المنة العلوية في آثارها العملية.. في نفوسهم وحياتهم وتاريخهم الإنساني: {يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة}..
تتجلى هذه المنة في أكبر مجاليها. في تكريم الله لهم. بإرسال رسول من عنده يخاطبهم بكلام الله الجليل: {يتلو عليهم آياته}..
ولو تأمل الإنسان هذه المنة وحدها لراعته وهزته حتى ما يتمالك أن ينصب قامته أمام الله حتى وهو يقف أمامه للشكر والصلاة!
ولو تأمل أن الله الجليل سبحانه يتكرم عليه فيخاطبه بكلماته. يخاطبه ليحدثه عن ذاته الجليلة وصفاته؛ وليعرفه بحقيقة الألوهية وخصائصها. ثم يخاطبه ليحدثه عن شأنه هو- هو الإنسان- هو العبد الصغير الضئيل- وعن حياته وعن خوالجه وعن حركاته وسكناته. يخاطبه ليدعوه إلى ما يحييه وليرشده إلى ما يصلح قلبه وحاله ويهتف به إلى جنة عرضها السماوات والأرض.
فهل هو إلا الكرم الفائض الذي يجري بهذه المنة وهذا التفضل وهذا العطاء؟
إن الله الجليل غني عن العالمين. وإن الإنسان الضئيل لهو الفقير المحووج.. ولكن الجليل هو الذي يحفل هذا الضئيل ويتلمسه بعنايته ويتابعه بدعوته! والغني هو الذي يخاطب الفقير ويدعوه ويكرر دعوته!
فيا للكرم! ويا للمنة! ويا للفضل والعطاء الذي لا كفاء له من الشكر والوفاء!
{ويزكيهم}..
يطهرهم ويرفعهم وينقيهم. يطهر قلوبهم وتصوراتهم ومشاعرهم. ويطهر بيوتهم وأعراضهم وصلاتهم. ويطهر حياتهم ومجتمعهم وأنظمتهم.. يطهرهم من أرجاس الشرك والوثنية والخرافة والأسطورة وما تبثه في الحياة من مراسم وشعائر وعادات وتقاليد هابطة مزرية بالإنسان وبمعنى إنسانيته.. ويطهرهم من دنس الحياة الجاهلية وما تلوث به المشاعر والشعائر والتقاليد والقيم والمفاهيم.
وقد كان لكل جاهلية من حولهم أرجاسها وكان للعرب جاهليتهم وأرجاسها.
من أرجاسها هذا الذي وصفه جعفر بن أبي طالب وهو يحدث نجاشي الحبشة في مواجهة رسولي قريش إليه وقد جاءا إليه ليسلمهما المهاجرين من المسلمين عنده.
يقول جعفر:
أيها الملك. كنا قومًا أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف.. فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولًا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه. فدعانا إلى الله وحده لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء. ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئًا وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام..
ومن أرجاسها ما حكته عائشة- رضي الله عنها- وهي تصور أنواع الاتصال بين الجنسين في الجاهلية كما جاء في صحيح البخاري في هذه الصورة الهابطة الحيوانية المزرية:
إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء. فنكاح منها نكاح الناس اليوم: يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو بنته فيصدقها ثم ينكحها.. والنكاح الآخر كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها: أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه! ويعتزلها ولا يمسها أبدًا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه! فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب. وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الرجل! فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع.. ونكاح آخر يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها. فإذا حملت ووضعت ومر عليها ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت. فهو ابنك يا فلان. تسمي من أحبت منهم باسمه فيلحق به ولدها. ولا يستطيع أن يمتنع منه الرجل!. والنكاح الرابع: يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها- وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علمًا- فمن أرادهن دخل عليهن فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جمعوا لها ودعوا لهم القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاطه ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك!
ودلالة هذه الصورة على هبوط التصور الإنساني وبهيميته لا تحتاج إلى تعليق. ويكفي تصور الرجل وهو يرسل امرأته إلى فلان لتأتي له منه بولد نجيب. تمامًا كما يرسل ناقته أو فرسه أو بهيمته إلى الفحل النجيب لتأتي له منه بنتاج جيد!
ويكفي تصور الرجال- ما دون العشرة!- يدخلون إلى المرأة مجتمعين- كلهم يصيبها!.. ثم تختار هي أحدهم لتلحق به ولدها!
أما البغاء- وهو الصورة الرابعة- فهو البغاء! يزيد عليه إلحاق نتاجه برجل من البغاة! لا يجد في ذلك معرة! ولا يمتنع من ذلك!
إنه الوحل.
الذي طهر الإسلام منه العرب. وزكاهم. وكانوا- لولا الإسلام- غارقين إلى الأذقان فيه!
ولم يكن هذا الوحل في العلاقات الجنسية إلا طرفًا من النظرة الهابطة إلى المرأة في الجاهلية. يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه القيم: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين:
وكانت المرأة في المجتمع الجاهلي عرضة غبن وحيف تؤكل حقوقها وتبتز أموالها وتحرم من إرثها وتعضل بعد الطلاق أو وفاة الزوج من أن تنكح زوجًا ترضاه وتورث كما يورث المتاع أو الدابة. عن ابن عباس قال: كان الرجل إذا مات أبوه أو حموه فهو أحق بامرأته إن شاء أمسكها أو يحبسها حتى تفتدى بصداقها أو تموت فيذهب بمالها.
وقال عطاء بن رباح: إن أهل الجاهلية كانوا إذا هلك الرجل فترك امرأة حبسها أهله على الصبي يكون فيهم.
وقال السدّي: إن الرجل في الجاهلية كان يموت أبوه أو أخوه أو ابنه فإذا مات وترك امرأته فإن سبق وارث الميت فألقى عليها ثوبه فهو أحق بها أن يَنكحها بمهر صاحبه أو يُنكحها فيأخذ مهرها. وإن سبقته فذهبت إلى أهلها فهي أحق بنفسها.
وكانت المرأة في الجاهلية يطفف معها الكيل فيتمتع الرجل بحقوقه ولا تتمتع هي بحقوقها يؤخذ مما تؤتى من مهر وتمسك ضرارًا للاعتداء. وتلاقي من بعلها نشوزًا أو إعراضًا وتترك في بعض الأحيان كالمعلقة. ومن المأكولات ما هو خالص للذكور ومحرم على الإناث. وكان يسوغ للرجل أن يتزوج ما يشاء من غير تحديد.
وقد بلغت كراهة البنات إلى حد الوأد. ذكر الهيثم بن عدي- على ما حكاه عنه الميداني- أن الوأد كان مستعملًا في قبائل العرب قاطبة فكان يستعمله واحد ويتركه عشرة. فجاء الإسلام وكانت مذاهب العرب مختلفة في وأد الأولاد. فمنهم من كان يئد البنات لمزيد الغيرة ومخافة لحوق العار بهم من أجلهن. ومنهم من كان يئد من البنات من كانت زرقاء. أو شيماء (سوداء) أو برشاء (برصاء) أو كسحاء (عرجاء) تشاؤمًا منهم بهذه الصفات. ومنهم كان يقتل أولاده خشية الإنفاق، وخوف الفقر..
وكانوا يقتلون البنات ويئدونهن بقسوة نادرة في بعض الأحيان فقد يتأخر وأد الموءودة لسفر الوالد وشغله فلا يئدها إلا وقد كبرت وصارت تعقل. وقد حكوا في ذلك عن أنفسهم مبكيات. وقد كان بعضهم يلقي الأنثى من شاهق.
ومن أرجاسها- وأصل هذه الأرجاس جميعًا- الشرك والوثنية الهابطة الساذجة: كما يصورها في إجمال الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه:
انغمست الأمة في الوثنية وعبادة الأصنام بأبشع أشكالها. فكان لكل قبيلة أو ناحية أو مدينة صنم خاص بل كان لكل بيت صنم خصوصي.
قال الكلبي: كأن لأهل كل دار من مكة صنم في دارهم يعبدونه فإذا أراد أحدهم السفر كان آخر ما يصنع في منزله أن يتمسح به وإذا قدم من سفره كان أول ما يصنع إذا دخل منزله أن يتمسح به أيضا.
واستهترت العرب في عبادة الأصنام فمنهم من اتخذ بيتًا ومنهم من اتخذ صنمًا؛ ومن لم يقدر عليه ولا على بناء بيت نصب حجرًا أمام الحرم وأمام غيره مما استحسن ثم طاف به كطوافه بالبيت وسموها الأنصاب. وكان في جوف الكعبة- البيت الذي بني لعبادة الله وحده- وفي فنائها ثلاثمائة وستون صنمًا. وتدرجوا من عبادة الأصنام والأوثان إلى عبادة جنس الحجارة. روى البخاري عن أبي رجاء العطاردي قال: كنا نعبد الحجر فإذا وجدنا حجرًا هو خيرًا منه القيناه وأخذنا الآخر؛ فإذا لم نجد حجرًا جمعنا حثوة من تراب ثم جئنا بالشاة فحلبنا عليه ثم طفنا به. وقال الكلبي: كان الرجل إذا سافر فنزل منزلًا أخذ أربعة أحجار فنظر إلى أحسنها فاتخذه ربًا وجعل ثلاث أثافيّ لقدره وإذا ارتحل تركه.
وكان للعرب- شأن كل أمة مشركة في كل زمان ومكان- آلهة شتى من الملائكة والجن والكواكب. فكانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله فيتخذونهم شفعاء لهم عند الله ويعبدونهم ويتوسلون بهم عند الله. واتخذوا كذلك معه الجن شركاء لله وآمنوا بقدرتهم وتأثيرهم وعبدوهم. قال الكلبي: كانت بنو مليح من خزاعة يعبدون الجن. وقال صاعد: كانت حمير تعبد الشمس. وكنانة القمر. وتميم الدبران. ولخم وجذام المشتري. وطي سهيلًا. وقيس الشعري العبور. وأسد عطاردًا.
ويكفي أن يتصفح الإنسان هذه الصورة البدائية الغليظة من الوثنية، ليعرف أي رجس كانت تنشره في القلوب والتصورات وفي واقع الحياة! ويدرك النقلة الضخمة التي نقلها الإسلام للقوم والطهارة التي أسبغها على تصوراتهم وعلى حياتهم سواء. ومن هذه الأرجاس تلك الأدواء الخلقية والاجتماعية التي كانت في الوقت ذاته من مفاخرهم في أشعارهم! ومن مفاخراتهم في أسواقهم! من الخمر إلى القمار إلى الثارات القبلية الصغيرة التي تشغل اهتماماتهم فلا ترتفع على تلك التصورات المحلية المحدودة:
هانت عليهم الحرب وإراقة الدماء حتى كانت تثيرها حادثة ليست بذات خطر. فقد وقعت الحرب بين بكر وتغلب ابني وائل ومكثت أربعين سنة أريقت فيها دماء غزيرة وما ذاك إلا أن كليبًا رئيس معد رمى ضرع ناقة البسوس بنت منقذ فاختلط دمها بلبنها؛ وقتل جساس بن مرة كليبًا واشتبكت الحرب بين بكر وتغلب وكانت كما قال المهلهل أخو كليب: قد فني الحياة وثكلت الأمهات ويتم الأولاد. دموع لا ترقأ وأجساد لا تدفن.
وكذلك حرب داحس والغبراء.
فما كان سببها إلا أن داحسًا فرس قيس بن زهير كان سابقًا في رهان بين قيس بن زهير وحذيفة بن بدر فعارضه أسدي بإيعاز من حذيفة فلطم وجهه وشغله ففاتته الخيل. وتلا ذلك قتل. ثم أخذ بالثأر. ونصر القبائل لأبنائها وأسر ونزح للقبائل وقتل في ذلك ألوف من الناس.
وكان ذلك علامة فراغ الحياة من الاهتمامات الكبيرة التي تشغلهم عن تفريغ الطاقة في هذه الملابسات الصغيرة. إذ لم تكن لهم رسالة للحياة ولا فكرة للبشرية ولا دور للإنسانية يشغلهم عن هذا السفساف.. ولم تكن هناك عقيدة تطهرهم من هذه الأرجاس الاجتماعية الذميمة.. وماذا يكون الناس من غير عقيدة إلهية؟ ماذا تكون اهتماماتهم؟ وماذا تكون تصوراتهم؟ وماذا تكون أخلاقهم؟
إن الجاهلية هي الجاهلية. ولكل جاهلية أرجاسها وأدناسها. لا يهم موقعها من الزمان والمكان. فحيثما خلت قلوب الناس من عقيدة إلهية تحكم تصوراتهم ومن شريعة- منبثقة من هذه العقيدة- تحكم حياتهم فلن تكون إلا الجاهلية في صورة من صورها الكثيرة.. والجاهلية التي تتمرغ البشرية اليوم في وحلها لا تختلف في طبيعتها عن تلك الجاهلية العربية أو غيرها من الجاهليات التي عاصرتها في أنحاء الأرض حتى أنقذها منها الإسلام وطهرها وزكاها.